فلسطين وكلية الآداب والسيد موسى
بقلم رامي المنشاوي
طرقات مستميتة على باب منزلنا يصاحبها صوت مرتفع لكنه واهن لموظف البريد الذي يزعق” بوستة بوستة” …نزلت أمي إلى الرجل هابطة درج البيت وقد أفقت قليلا متسائلا من الذي يرسل لنا الخطابات …
بيت رامي المنشاوي ياحاجة ؟
أيوه يابني خير ..خطاب من الكلية لازم يقراه وخدي بالك عليه ختم الشؤون القانونية .لا تسهتروا به .
أمي تصعد درج البيت ،أتحسس تنفس صدرها الذي يعلو ويهبط ،وصوت مذبوح يخرج من صميم القلب ،”استر يارب ،خير اللهم اجعله خير” .
تدخل أمي غرفتي ،تطمأن إلى مخبوز الدنش الذي اشترته لي من مخبز يجاور ميدان المحطة ،تربت على ظهري ،ابني ..رامي ..قوم يابني طمني جواب ايه ده ؟.
فتحت الخطاب وأنا أمثل على أمي عدم الاهتمام ،وقعت عيني على السطور الأولى …
الطالب رامي محمد المنشاوي يرجي الحضور للشؤون القانونية بالكلية للمثول أمام المحقق “فلان ” وذلك في المذكرة المقدمة من ” قائد الحرس بالكلية بشأن افساد اليوم الدراسي بالحرم الجامعي ومخالفة اللائحة القانونية 79بممارسة العمل السياسي داخل الجامعة وتعطيل سير المحاضرات
ارتديت قناعا في وجه أمي رغم انها استعشرت مرارة ما مر بي ،لازلت أذكر كلمات هذا الخطاب محفورة في ذهني لا محاها الزمن ولا قدرت الأيام على نسياني أحرفها ،أخبرتها أنها مسابقة أدبية دعتني لها الكلية …ربتت أمي على ظهري لكني لحظت كسرة في قلبها خشية من ضياع مستقبل الشاب الذي خرجت به من الدنيا …
لم يكن الهاتف الجوال قد ظهر بعد ،اخرجت كارت الميناتل وجريت إلى أقرب كابينة من بيتنا ،هاتفت الاستاذ سيد موسى ،الرجل الذي توقفت أمامه كثيرا لمحاولة فهمه ،السيد موسى على المستوى العملي هو القيادة الصحفية التي أعمل تحت امرتها محررا تحت التمرين فترة وجودي بالجامعة ولا أجروء وقتها على قول صحفي ..وهو القيادة السياسية التي تبنتني في مرحلة الجامعة مؤمنا أن بداخلي مشروع لكاتب صحفي سيراهن عليه ..وهو ذلك الشخص الذي كلما كنت أحاول قراءته أستشعر أنني لم أفلح وأن علي أن أعيد النظر مرة أخرى في فهم هذه الهوية …
وقتها كان الأستاذ سيد موسى في الثلاثين من عمره ،كان وقته مقسوما بين الصحافة والسياسة ،متوازنا ببعض الحكمة التي تجعلني للحظات أثور عليه بعض الوقت لكنه كان يتقبل ثورتي برحمة دون قسوة ،وأوقات أخرى تجده ذلك الثوري الذي يحيد عن الحكمة ويميل للمواجهة والكتابة المباشرة …وهو في ذلك وتلك يخفي بداخله سيد موسى الحقيقي ، وقتها كان زملاؤه يحادثونه عن الحبيبات وموعد الخطوبة وكنت اتساءل لما لا يملك هو الآخر حبيبة ويدشن مشروعه للخطوبة ؟،كان في هذا الشق أشبه بصندوق مغلق على نمطه الوجداني ،
يتحدث عن فلسفة الحب لكنه لا يتحدث عن هوية روحه أو مشاعره ،كنت أراه من زاوية أخرى أنه حبيس لقصة حب لم تتم فبقى أسيرا في منطقة غائبة عن البشر ،يتحرك بين الناس السياسي والصحفي لكن لا أحد يعلم عن آمال الرجل أو أحزانه شيئا.استغثت به عبر محادثتي الهاتفية له “فأخبرني أنه سيحضر التحقيق معي ولا داعي للقلق “…والحق أن الدكتور السيد البدوي شحاتة رئيس مجلس ادارة جريدة الوفد والحزب الأسبق ،أجرى اتصالا بي وأخبرني أنه لن يتركني في هذا الأمر وأنه لن يتوانى وأنه كلف جبهة محامي الجريدة والحزب لحضور التحقيق معي ،أقول هذا من باب عدم كتمان الشهادة رغم خلافي مع الدكتور سيد البدوي وخصومتي معه الحالية والتي سيقضي فيها الله ،لكنه في ذلك الزمن البعيد فعل هذا ولم يترك المحرر تحت التمرين والطالب الجامعي ليضيع مستقبله .هذا من باب إيفاء الحقوق …
حضر الأستاذ سيد موسى التحقيق معي …عبرت الأزمة برحمة من الله …تخرجت من الجامعة ومظاهرات فلسطين التي شرفت بقيادتها وتعرضت بسببها أن أكون على شفا الفصل هي الأخرى مرت بهتافتها وحماسها وصوت رفاقي من الطلاب …ومرت سنون ثم سنون ..لأجد اتصالا على تلفون بيت أمي الأرضي من الأستاذ سيد موسى …أتلهف في سؤاله انت فين …لك سنة متغيب وكل ما أستفسر من أحد عنك يخبرني أنك ستتصل بي ؟
أنا في أمريكا يا رامي ..
سافرت امتى وليه وازاي ؟
مش مهم كل الأسئلة دي ..المهم ركز في حلمك واعمل اللي انا كان نفسي اعمله …تكون كاتبا صحفيا لا تكتفي بكونك صحفي ..تطبع للناس رواياتك وتكتب للناس واحتفالي الحقيقي بك إنك اجتزت عضوية نقابة الصحفيين وبقيت صحفي بجد …الف مبروك يا رامي .
في ذكر ما يمر الآن بالوطن الفلسطني أتذكر الأستاذ سيد موسى ،وأفراخ الورق الكانسون ،والأقلام والمعرض الذي سنقيمه لنصرة الانتفاضة …يأخذني من يدي ،ويجري بي لمقر نقابة الأطباء بطنطا ،يخبرني أنه رشحني معه ومعنا زميلنا محمد مبروك للإشراف على المعرض ….الأستاذ الذي تركنا وذهب للمهجر لازال يناضل من أجل القضية هناك ..لا يزال كما هو محتفظ بخزينة روحه التي لا يعرف حزنه إلا صاحبها ..لا زال بوحدته وغربته …ولا زلت أسأل عن سر ذلك التبتل …إذ لا بد من وجود حبيبة منقوشة في القلب ..ينفرد هو فقط بمناجاتها .